إنَّ العالَم الإسلامي اليوم مأزومٌ بالصراع مع ذاته أكثر ممَّا هو مأزومٌ بالصراع مع الآخرين، وهذا الصراع الذاتي يُضعف القدرة على العطاء والتفاعل، ويُنهِك الجسد الضعيف، ويجعل كثيرًا مِن المؤسسات الجامعة - السياسية منها وغير السياسية - مجرد لافتات، أو مظاهر لا فاعلية لها، ولا تُقدِّم شيئا ذا بال، وقد تُصبِح مجرد اجتماعات رسمية تَرصدها الكاميرا، أو تغدو أدوات بِيَد طَرَف أو فرْد يَملك المال، وكان يُمْكن أنْ تَكُون فاعلة ومؤثّرة - حتى مع احتفاظ كل مجموعة بخصوصياتها - لو تمَّ تكريس الروح المؤسسيّة القائمة على مبدأ فَهْم الاختلاف وتوظيفه إيجابيًا، وحينها سنَرَى بوادر إيجابية تَلوح في الأفق، وتُبَشِّر بتحسُّن الأوضاع.
عند قراءة التاريخ والواقع؛ فإنَّ هذا الجسم الكبير (الأمَّة ) يَحفَل بألوان مِن التمايز والتفرق: بعضها طبيعي ومعتبَر، وبعضها مرفوض ومنكَر، وقِسْم منها قد يَكون مقبولًا في الأصل، ولكنه يتجاوز ذلك في حالات كثيرة إلى ما يَنتهك الولاء الإسلامي والإخاء الديني، ولعل مِن أبرزها: المذاهب الفقهية والفكرية؛ فالانتساب المجرَّد للمذهب قد يَكون تعريفًا مَحضًا، أو منهجًا فرعيًا يتخلص فيه المرء مِن التردد والفوضى في شئونٍ عمليةٍ شخصية تَعْرِض له في حياته.
والأئمة الأربعة - وأمثالهم - كانوا نموذجًا للاختلاف العلمي الذي لَم يؤثّر على الحب والعلاقة. أمَّا حين يتحول الأمر إلى عصبية وجهالة وتَخَنْدُق؛ فهو جَوْر على الانتماء الأصيل والجوهري للأمَّة، وحين يَكون التمذهب تقديمًا لقول الإمام أو الفقيه على قول الله وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فهو مِن التفرق المذموم. وفي عديد مِن الحالات التاريخية، أصبح الانتساب للمذهب مَعْقدًا للولاء والبراء، وسببًا للتفريق بَيْن الناس وتصنيفهم، حتى عَرَض بعضهم مسألة التزاوج بين أصحاب المذاهب ومدى مشروعيتها، ولعلهم بحثوا مسألة التوارث أيضًا! وعلينا ألا نجعل الانتماء للمذهب حجابًا عن صوابيّة أقوال أخرى، خاصة في مسائل حيوية ومهمّة أو ظاهرة الرجحان، وألا نسمح للتعصب والهوى بأنْ يَحكم علاقاتنا البَيْنيّة.
ومِن ألوان التفرق أيضًا: مسائل الأجناس والقوميات والشعوب، وهي ممَّا جَبَل الله الناس على الانتساب له؛ فجعلهم كذلك ليتعارفوا، وبيَّن لهم أنَّ الفضيلة والكرم بالتقوى، وأنَّ الأنساب تُوضَع يوم القيامة "فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ "، والإسلام دِين عالميّ، وليس دِينًا عربيًا أو محليًا أو عنصريًا، ولا نِحْلَة آسيوية - كما يقول بعضهم - بحُجّة أنَّ معظم انتشاره في (أفريقيا ) و (آسيا )، وبعض غلاة القوميّة كانوا يريدونها بديلًا عن الإسلاميّة، وانعزالًا عن المحيط الواسع لأهل الإسلام.
نعم، للعربية فَضْل بالنبوة والقرآن، والانتساب مقبول بلا فَخْر ولا استعلاء ولا انعزال، وتاريخ الإسلام صنعته شعوب كثيرة كالكُرد والفرس والتُرك والهند والبربر وغيرهم، وليس ثَمَّة مشكلة في الانتساب لو صار تعريفًا محضًا أو حافزًا للمكارم والمعالي والمَجد، بَيْدَ أنَّ مِن المجزوم به، أنَّ كل شعب لديه نصيبٌ مِن التَّمَحْور الخاص به حول نفْسه، ولكن كثيرًا ما تتأثر الشعوب بمواقف حكوماتها مع أَحد أَو ضد أَحد؛ فتَصير الحالة استقطابًا حادًا ينعكس على علاقات الشعوب فيما بينها، بل والأُسَر والأفراد أحيانًا.
جَعل الله الاختلاف جُزءًا مِن طبيعة الحياة وأهلها، حتى فيما بَيْن الأب والابن، مع أنَّ الابن فَرْع عن أبيه وبَضْعَة مِنْه، ويَقع بينهما فروق مِن حيث الفكر والطبيعة النفسية والشكل واللون، ولقد قال الله – تعالى -: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُم وَأَلْوَانِكُمْ " ؛ فاختلاف الألوان ظاهر، وهو آية وحكمة وابتلاء، أمَّا اختلاف الألسنة؛ فيحتمل اختلاف اللغات أو الأصوات.
ومع أنَّ الاختلاف سُنَّة ربانية؛ إلا أنَّ الناس يضيقون به ذَرعًا ويتساءلون: إلى متى يَظل هذا الاختلاف قائمًا؟ ومتى نتفق؟ والجواب: إنَّ الخلاف باقٍ إلى أنْ يَرِث الله الأرض ومَن عليها؛ فلا تَحْلُم بأنْ يَتفق الناس على كل شيء. وبقاء الخلاف ينطوي على مَقْصد رباني بالغ الحكمة، وكَم تَكون الأشياء مملّة وعديمة الفائدة حين تتماثل؛ ولذا قال - سبحانه -: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ "؛ فمِن حيث القَدَر؛ فالاختلاف واقع، ووقوعه متصل بطبيعة خَلْق الناس على صفة التنوع في الأشكال والألوان والألسنة والمدارك، وقابلية النفس الإنسانية لأكثر مِن اختيار؛ حيث ألهمها خالقها فجورها وتقواها، وهداها سبيلها للشكر أو للكفر، ومَكَّنها مِن اختيار الطريق وسلوكه؛ ففي البشر الطيب والخبيث والبار والفاجر، والمؤمن والكافر والقوي والضعيف.
اكمل قراءة الملخص كاملاً علي التطبيق الان
ثقف نفسك بخطة قراءة من ملخصات كتب المعرفة المهمة
هذه الخطة لتثقيف نفسك و بناء معرفتك أُعدت بعناية حسب اهتماماتك في مجالات المعرفة المختلفة و تتطور مع تطور مستواك, بعد ذلك ستخوض اختبارات فيما قرأت لتحديد مستواك الثقافي الحالي و التأكد من تقدم مستواك المعرفي مع الوقت
حمل التطبيق الان، و زد ثقتك في نفسك، و امتلك معرفة حقيقية تكسبك قدرة علي النقاش و الحوار بقراءة اكثر من ٤٣٠ ملخص لاهم الكتب العربية الان